الشيخ محمد إسحاق الفياض

ترجمة موجزة عن سيرة وفصول من حياة وآثار صاحب السماحة

المقدمة:

من الصعب جداً، بل هو المستحيل من أن يتمكن كاتب مقال الكتابة ، حول علم من أعلام الفقه وأستاذ بارع ومحقق عظيم الشأن من كبار علماء الطائفة ، جامعاً في ذلك كل جوانبه وخصوصياته ، ولكن من باب لا يترك الميسور بالمعسور ، أحاول في هذا المجال ذكر سيرة واحد من أولئك العباقرة العظام والفطاحل الكرام وبعض الخصوصيات حول شخصيته الفذة ألا وهو العلامة الكبير والباحث المحقق سماحة آية الله الحاج الشيخ محمد إسحاق الفياض دام ظله ، وذلك من خلال ما قرأت وسمعت وما لمسته عن قرب منه مباشرة ، مع ما يثير ذلك في النفس من اللوعة والأسى لما لحق بهؤلاء من ظلم وحيف ، وعدم معرفة الكثيرين لمقامهم ، لكنه في نفس الوقت مدعاة للإعجاب والتقدير لما قدمه ويقدمه أولئك البررة، رغم كلتلك الصعاب وتحمل المشقات ، بتواضع وحسن أخلاق وزهد وتقوى ، بعيداً عن الأضواء ومظاهر الحياة الفانية .

دور العلماء :

منذ وضع شيخ الطائفة الطوسي العظيم ، اللبنة الأولى للحوزة العلمية الدينية في النجف الأشرف ، هارباً من ظلم بني العمومة بتقتيل الموالين وهجومهم على دار الشيخ وحرقهم مكتبته بما فيها من كتب قيمه ، مما اضطره أن يترك بغداد ويلوذ بجوارمرقد إمام الأئمة ووصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين ومولى الموحدين علياً عليه السلام ، ليتابع منها خدمة الدين وتعليم الأمة من فيض علوم آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونشر فقه أهل بيته عليهم السلام ببيان الأحكام الشرعية وتربية الناس على نهج وخلق الإسلام الرفيع . تتابع من بعده علماء الشيعة جيلاً بعد جيل في أداء ذلك الواجب المقدس ، ولكل منهم خصوصيته وما يميزه عن أقرانه فيما قدمه من خلال عطائه وسلوكه ، مع اشتراكهم جميعاً في الهدف السامي الذي يسعون من أجله ، ألا وهو خدمة الدين والمذهب الحق ونشر العلم وسعادة الإنسان في الدارين ، وقد تحمل الكثيرون منهم ظلم حكام الجور وأتباعهم ، فكان لكلمنهم قصته الخاصة في مظلوميته ومظلومية عياله بالقتل أو السجن وأقله التضييق عليه أو التهجير ، لهم في ذلك أسوة بما جرى على أئمتهم أئمة الهدى سلام الله عليهم أجمعين.
وقد أنعم الله جل وتعالى على أولئك الرجال في الأزمنة المتعاقبة والأعصر المتتالية بمختلف المواهب العظيمة ،وأمدهم بفيضه ورحمته، ورعاهم بعين عنايته من لطفه ، وأنعم عليهم ببركاته من فضله ، ليكونوا الأمناء على دينه ، والحفاظ على شريعة خاتم أنبيائه والمبينين لعباده حلاله من حرامه ، والأدلاء على صراطه القويم ، في زمن غيبة وليه إمام زماننا الحجة محمد بن الحسن العسكري ، عجل الله تعالى فرجه الشريف وجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه .
وإذا اختص بعض من أولئك الأعلام بجانب مهم اشتهر به في عصره من خلال تبحره وتميزه في ذلك المجال أكثر من غيره ، كمن أوقف نفسه للدفاع عن الإسلام وحصونه والترصد لرد هجمات الكفار والأعداء المغرضين ، ودفع زيف الحاقدين على الإسلام ومذهب أهل البيت عليهم السلام ، وبيان أحقية أتباعهم ورصانة ومتانة معتقداتهم ، كان هناك من عمل جهده في التخصص في مجال الإفتاء والقضاء وبيان مسائل الحلال والحرام وتأليف الأسفار ، كما عمل آخر باهتمام في الجانب الأخلاقي لتقويم سلوك الناس وتهذيبهم ورعاية شؤون الأمة ومساعدة الفقراء والمحتاجين منهم ، فيما كان غيره مهتماً بالتدريس وتربية الأجيال ، وهكذا .. إلا أنه كان يبرز بين فترة وأخرى من بين أولئك الأعلام من يوفق للخدمة والعطاء في أكثر من جانب ، فيجمع له بين التفوق العلمي فقهاً وأصولاً وثني وسادة الزعامة للمرجعية العليا ، مع تبحره وتخصصه في أكثر من فن ، ولم يمنعه ذلك من التعمق في العلوم الأخرى والتأليف والتدريس مع ما يقدمه من نظريات مبتكرة جديدة في مختلف الميادين التي يخوض غمارها ، مضافاً لاهتمامه بالجوانب الاجتماعية ورعاية شؤون الأمة ومصالحها .

الإمام الخوئي :

وقد كان واحداً من أولئك العظام هو سيد الفقهاء والمجتهدين وأستاذ الجيل المعاصر من علماء الإمامية وفقهائهم الإمام الراحل آية الله العظمى السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي(1317-1413هـ) رضوان الله تعالى عليه ، فقد كان علماً بارزاً وأستاذاً بارعاً يشار إليه بالبنان ، محلقاً في علم(أصول الفقه) وباحثاً ماهراً ، أذعن له الجميع بالفضل ودان له المحققون ، حتى صار المدرس الأول لهذا العلم ولقب بعلم الأصول والمجدد ، لكثرة ما ابتكره في هذا الفن ، جمعت في كتابه (أجود التقريرات) تقريراً لبحوث أستاذه آية الله الشيخ محمد حسين النائيني (قده)، وكذلك في (تقريرات بحوثه)المتعددة التي دونت من قبل تلامذته، ومن أهمها وأجمعها تفصيلاً هو ما قرره آية الله الشيخ محمد إسحاق الفياض في كتابه الموسوم بـ(المحاضرات) في عشرة أجزاء طبع خمسة منها .
وكانت مهارته (قده) في الفقه لا تقل أهمية وامتيازاً عن تتبعه وتعمقه في أصوله ، فهو أستاذ الفقه لأكثر من نصف قرن ومنه أخذ الفقهاء من بعده ، وقد دونت نظرياته الفقهية في تقريرات أفاضل تلامذته في عشرات العناوين والمجلدات من الكتب التي تعتبر اليوم أمهات المصادر المهمة للباحثين والعلماء مما لا غنى للباحثين والأساتذة والطلاب في الحوزات العلمية منها ، وعليها يدور رحى البحوث والدروس في الحوزات العلمية .
كما كان من خصائصه رحمه الله أنه تفرغ لـ (علم رجال الحديث) بعد أن اعتبره الأداة المهم لتشخيص الخبر الصحيح من غيره والثقة من الضعيف ، فإن الجزم بعدالة الراوي والوثوق بصحة الرواية لا يكاد يحصل إلا بمراجعة علم الرجال ، وعن طريق معرفة أحوال الرواة ووثائقهم وسلامة السند يمكن الاطمئنان بصدور الرواية عن المعصوم عليه السلام ، والبحث عن الدلالة ، ومن ثم استنباط الحكم الشرعي في نهاية المطاف ، وقد وضع أسسه وقواعده الخاصة به ، مع ترجمة لوضع (15706 راوٍ ومحدث) في كتابة القيم (معجم رجال الحديثوتفصيل طبقات الرواة) جمعت في أربعة وعشرين مجلدا .
وحيث خاض (قده) أبحاثا في (علم التفسير) و(علوم القرآن) فقد كان أسلوبه أسلوب الخبير الماهر المتخصص في هذا المجال، وإن أثره القيم (البيان في تفسير القرآن) خير شاهد على مقدرته التفسيرية وتبحره فيما يتعلق بعلوم القرآن .
ولم يكتف الإمام الخوئي (قده) بمعالجة الفقه وأصوله والتفسير وعلم الرجال ، وإنما كان متضلعا في (أصول الدين) و(العقائد) فكان يعالج الموضوعات المتعلقة بالتوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد ضمن أبحاثه الأخرى بنفس العمق والرصانة اللذين أتصف بهما في سائر أبحاثه ، ولم يثنه كل ذلك من إتاحته الفرصة لنفسه بالتفرغ لبعض الوقت إلى التأليف ورفده المكتبة الإسلامية بعيون الكتب القيمة .
ولم يعهد منه (قده)ممارسة نظم الشعر سوى ما كان ينظمه في بعض المناسبات الخاصة أحيانا وباللغات العربية والفارسية والتركية ، إلا أنه رضوان الله تعالى عليه أبى إلا أن يختم حياته بخير في نظم أرجوزة موجزة في ألفاظها ، عظيمة في مضمونها ومحتواها ، تتكفل ببيان العقيدة الحقة في التوحيد والعدل والإمامة ، بلغت 156 بيتا مع سبعة أبيات في التاريخ، فصار المجموع 163 بيتا وذلك في السنوات الأخيرة من عمره الشريف .
كل ذلك مضافا لتحمله مسؤولية شؤون المرجعية ورعاية مصالح الأمة والتفرد لزعامتها لربع قرن من الزمن في ظرف عصيب من القهر والشدة ، لم تتعرض المرجعية الدينية في تاريخها وحوزتها العلمية منذ تحولها من بغداد إلى النجف الأشرف إلى ظرف قاهر مشابه ضاغط من الخارج والداخل ، فكانت مهمة الإمام الخوئي هي المحافظة أولا على دور الحوزة العلمية واستقلالها ، ومتابعة مهامها العلمية والفقهية والاجتماعية استمرارا لدور النجف التاريخي في احتضان الحوزة ومعاهدها الدينية ورعاية مصالح الطائفة .

تلامذة الإمام الخوئي :

ولما كان يمتاز (قده) بمنهج علمي متميز وأسلوب خاص به في البحث والتدريس ، فقد جمع حوله طيلة فترة تدريسه التي تجاوزت السبعين عاما ، أعدادا كبيرة من طلبة العلوم الدينية والأساتذة اللامعين ينتمون إلى بلدان العالم المختلفة ، فكان هناك طلاب من سوريا ولبنان والأحساء والقطيف والبحرين والكويت وإيران والباكستان والهند وأفغانستان ودول شرق آسيا وأفريقيا مضافا إلى الطلبة العراقيين ، يصعب حصرهم وتعيين أعدادهم وبيان مقامهم العلمي ودورهم في الساحة الإسلامية عموما .
فقد تتلمذ عليه آلاف من علماء الشيعة المنتشرين في المؤسسات العلمية الدينية في أنحاء العالم ، حيث لا تجد اليوم إماما أو مسؤولا عن تلكم المراكز ، لم يكن قد أخذ من الإمام الخوئي أو من أحد تلامذته أو تلامذتهم ، ومنهم المئات من المجتهدين الذين هم اليوم أساتذة الحوزات الدينية وعمادها ، وكذلك من يدور حولهم الزعامة والمرجعية ، أو تقلدها فعلا ، بعد وفاته رضوان الله تعالى عليه ، نذكر بالمناسبة بعضا منهم :
آية الله السيد علي البهشتي -العراق ، آية الله الشيخ جواد التبريزي -إيران ، آية الله الشيخ ميرزا علي الفلسفي -إيران ، آية الله السيد محمد رضا الخلخالي -العراق ، آية الله الشيخ محمد آصف المحسني -أفغانستان ، آية الله السيد تقي القمي – إيران ، آية الله الشيخ الوحيد الخراساني – إيران ، آية الله السيد علاء الدين بحر العلوم -العراق ، آية الله المرحوم السيد محمد الروحاني (قده) – إيران ، آية الله الشهيد الشيخ ميرزا علي الغروي – العراق ، آية الله الشهيد الشيخ مرتضى البروجردي -العراق ، آية الله المرحوم السيد محي الدين الغريفي -البحرين ، آية الله الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم -العراق .
ومنهم آية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر ، العالم والباحث المحقق المعروف ، وهو يقول بحق أستاذه الخوئي
<<هذا الأستاذ الذي بصرت نور العلم في حوزته ، وذقت طعم المعرفة على يده ، وإن أعظم ما ينعم الله به على الإنسان بعد الإيمان ، العلم ، ولئن كنت قد حصلت على شيء من هذه النعمة فإن فضل ذلك يعود إليه ، فلست إلا ثمرة من ثمرات وجوده ، وفيضه الشريف ، وولدا من أولاده الروحيين>>
ومنهم سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله والذي تزعم الحوزة الدينية في النجف الأشرف بعد وفاة أستاذه ، وهو يعتبر اليوم المرجع الأعلى للطائفة في العالم ، يقول عن أستاذه : <<لقد قضى قدس سره عمرا حافلا بالمآثر وجلائل الأعمال التي كفلت تسجيل اسمه في سفر الخالدين ، وجعلته في عداد نخبة بارزة من علمائنا الأعلام ممن لا تزال تردد أسمائهم الشريفة على الألسن جيلا بعد جيل ، إن الحوزات العلمية -ولا سيما الحوزة المقدسة في النجف الأشرف- تبقى تتذكر بفخر واعتزاز بالغين خدماته الجليلة وجهوده العظيمة متمثلة في جانب منها في تراثه العلمي القيم ، والسنوات الطوال التي قضاها في تربية أجيال من العلماء والفضلاء الذين نهلوا من علمه الجم ، وتربوا في محضره الشريف>> .
ومن أولئك العباقرة العظام ، هو العلامة الكبير والباحث المحقق العظيم سماحة آية الله الحاج الشيخ محمد إسحاق الفياض دام ظله ، الذي نحن بصدد بيان سيرته وفصول من حياته وبعض آثاره ومآثره وأفضاله وخدماته الجليلة لهذه الأمة .

ولادته ونشأته :

ولد محمد إسحاق سنة 1930م في قرية (صوبة) إحدى قرى محافظة (غزني) في وسط أفغانستان الواقعة جنوب العاصمة كابل ، وهو ثاني أبناء والده محمد رضا من بعد أخيه محمد أيوب ، وكان والده رحمه الله المتوفى سنة 1989م فلاحا بسيطا يعمل عند بعض المتمولين في القرية من ملاك الأراضي ، ليقتات من كد يمينه وعرق جبينه في إعاشة عياله ، إلا أنه كان غنيا بالإيمان وغني بما يغدقه من عطف وحنان على أسرته ، مشفوعا بحب الرسول الكريم وآله الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . وقد كان يرى ذلك المؤمن المزارع البسيط في ولده محمد إسحاق من علامات النبوغ والذكاء ما ألزمه أن يوليه اهتماما ورعاية خاصة ، وكأنه يقرأ في ملامح ولده مذ ولادته ما يكون عليه الوليد في مستقبل الأيام من مقام علمي وفضل وورع وتقوى يؤهله للقيام بدور بارز في خدمة دينه والمؤمنين .

بداية تعليمه :

كان يرسله والده إلى مكتب شيخ القرية يوميا -حيث لا توجد مدارس نظامية في القرية آنذاك- ليتعلم مبادئ القراءة والكتابة وتعلم القرآن ، وهو في الخامسة من العمر ، وفي فصول الشتاء ، يحمل الوالد الكريم صغيره على ظهره مغطيا إياه بما يكفي لحمايته من البرد القارص عبر الطرق الوعرة والثلوج الكثيفة ، ليوصله إلى مكتب الشيخ صباحا ويعود به إلى البيت مساء وهكذا ليتغذى الولد النبيل من مناهل العلم والمعرفة والأخلاق ، وينعم بالعطف والحنان ، فيشب على الإيمان وحب آل البيت عليهم السلام ويقرر إكمال دراساته في الحوزات الدينية كما كان ذلك رغبة والده رحمه الله ، فقرأ على شيخ القرية أبجديات العلوم وتعلم القرآن ، ومن ثم كتاب جامع المقدمات وهو كتاب يتمل على أكثر من عشر كتب مختصرة في النحو والصرف والمنطق والأخلاق لعدة مؤلفين ، يدرسها طلاب العلوم الدينية كمقدمة للكتب اللاحقة المقررة في الحوزات ، ولذلك سميت تلك المختصرات بـ(جامع المقدمات).

المدرسة الدينية :

انتقل الطالب المجد بعد مكتب شيخ القرية إلى قرية (حوت قل) المجاورة وهو ابن الخامس عشر من العمر لينظم إلى صفوف المدرسة الدينية التي أسسها الشيخ قربانعلي وحيدي رحمه الله وهو من خريجي مدرسة النجف الأشرف في العراق .
أكمل في تلك المدرسة قراءة كتاب (جامع المقدمات) وكتاب (البهجة المرضية في شرح الألفية) المعروف في الأوساط الدراسية بكتاب السيوطي نسبة إلى مؤلفه جلال الدين السيوطي المتوفى 911هـ في النحو وقواعد اللغة العربية لأربع سنوات ، وعند أساتذتها كالشيخ ملا إسماعيل وملا حيدر علي رحمهما الله تعالى .
وكان نظام المدرسة حينها يكفل للطالب مكان الإقامة والمبيت في إحدى غرفها الصغيرة ، وعلى الطالب أن يتكفل بمصاريفه الشخصية من اللباس والطعام الذي كان عادة ما يتكون من جلب الطحين من منازلهم لتقوم بعض نساء القرية بعجنها وعملها خبزا للطلاب من دون أجر .

وفاة والدته والانتقال إلى مشهد :

في تلك الفترة فقد محمد إسحاق والدته رحمها الله حيث وافاها الأجل المحتوم اثر مرض ألم بها ، فحزن لفقدها وتألم كثيرا ، حيث فقد معها العطف وحنان الأمومة ، إلا أن المصاب رغم فداحته لم يثنه عن مواصلة التعلم ، بل زاده إصرارا حتى قرر الانتقال من مدرسة القرية إلى مدينة مشهد المقدسة في إيران ، وذلك كخطوة أولى منه ، لما يدور في ذهنه ويعمل من أجله بشغف بالغ متمنيا تحقيق أمنية ، ألا وهو الانتقال إلى الحوزة العلمية الدينية بالعريقة في النجف الأشرف في العراق .

في مدينة الإمام الرضا عليه السلام :

استقر الشيخ محمد إسحاق لسنة واحدة في مدرسة (الحاج حسن) الواقعة في منطقة (بالا خيابان) والتي شملها مشروع توسعة الحرم الرضوي فيما بعد ، فتهدمت المدرسة ووقعت ضمن الساحة الكبيرة للحرم المقدس حاليا ، قرأ خلالها كتاب (حاشية ملا عبدالله) وهو الحاشية على كتاب (تهذيب المنطق) للمولى عبدالله بن شهاب الدين الحسيني المتوفى 981هـ ، ومقدار من كتاب (المطول) لسعد الدين التفتازاني ، في علم المعاني والبيان والبديع ، قرأها عند الأستاذ الشهير الشيخ محمد حسين النيشابوري المعروف بالأديب النيشابوري رحمه الله ، وهناك لاحظ الشيخ التلميذ مفارقة في نمط الاستفادة من الأستاذ ونظام التدريس ، حيث الأستاذ النيشابوري يطلب أجرا على تعليم الطلاب ولو كان رمزيا ، وذلك لتأمين عيشه البسيط من ناحية ، وليتأكد من وجود الطلبة المجدين في تحصيل العلم وليس مجرد الحضور الرسمي في مجلس درسه من ناحية أخرى ، وكان سماحة المرحوم آية الله السيد يونس الأردبيلي العالم الكبير المعروف في مدينة مشهد وهو الذي يتكفل بتأمين خبز الطلبة ، كما كان العالم الجليل المرحوم الشيخ أحمد الكفائي نجل آية الله الشيخ الآخوند ، وهو المتولي المسؤول على المدارس الدينية في مشهد المقدسة يعطي الطلاب مبلغا شهريا بمقدار أربعين ريالا (نصف دولار تقريبا في حينها) ، وبهذا المبلغ البسيط يؤمن الطالب حياته اليومية البسيطة بأدنى متطلباتها .

هدفه الوصول إلى النجف :

إن تلك الأمور وغيرها من المتاعب التي كانت تواجهه,لم تكن تعني للطالب المجد والمثابر شيئاً سوى المزيد من الإصرار في التعلم وبلوغ مرامه للوصول للحوزة العلمية الدينية في النجف الأشرف في العراق, وهو في بحث وسؤال دائمين حول طريق السفر, حيث كان قد ترسخ في ذهنه – وهو طالب صغير في قريته – أهمية النجف وخصوصيته, لما كان يسمعه من فضل النجف مدينة وحوزة على غيرها من المدن والحوزات ,وذلك مما يدور في أحاديث الطلبة وأساتيذهم وبخاصة العلماء الذين كانوا قد تخرجوا من النجف واستقروا فيمناطقهم, ومنهم مؤسس المدرسة الدينية التي درس فيها في قرية <<حوت قل>> , أو من أولئك الذين كانوا مازالوا مستمرين في النجف ويترددون في الزيارات إلى أهليهم , فينقلون في مجالسهم ومحاضراتهم , الخصوصيات والميزات بين الحوزات التي زاروها أو استقروا لبعض الوقت فيها , ويذكرون أفضلية النجف على غيرها , يقول الشيخ الفياض في هذا الصدد: << أول ما سمعت باسم النجف ومرتبة الحوزة العلمية فيها , كان من شيخ قريتنا , ومن ثم في المدرسة الدينية , وكلما كنا نسمع عن النجف شيئاً كنا نسمع عن المبرز فيها , ألا وهو السيد الخوئي ، وذلك بواسطة الأفاضل من تلامذته أمثال الشيخ عزيز الكابلي , والسيد محمد حسن الرئيس , والشيخ محمد علي المدرس رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.

تأثيرات النجف على وافديها :

ولقد كان من تأثير العوامل الدينية المتقدم ذكرها وزهد العلماء والعادات الاجتماعية والثقافة والمكانة العامة ، أن أنجبت أقطابا تمحضت أقوالهم وأفعالهم لله وحده ، فإن نطقوا ففي نطقهم الصدق والهداية ، وان سكنوا ففي سكونهم التفكير والطاعة وصلاح الأمة ، وإن فعلوا ففي فعلهم الخير ، وإن آخوا آخوا في الله ، وإن عادوا عادوا في الله وحده .
وسماحة آية الله الشيخ محمد إسحاق الفياض واحد من أولئك الذين هاجر إلى النجف الأشرف ، ونهل من نمير علومها وتربى في مدرستها وتحلى بآدابها وأخلاقها ، تلميذا مجدا ومن ثم أستاذا بارعا ، حتى أصبح زعيما من زعمائها وواحدا من المبرزين بين علمائها الكبار ، الذي تقع على عاتقه مسؤولية واحدة من أهم الحلقات الدراسية فيها وكذلك مرجعية الناس في التقليد .

رحلة الشيخ إلى العراق:

انتقل الشيخ الفياض بعد عام من الدرس في حوزة مدينة مشهد -كما تقدم – إلى مدينة قم المقدسة لزيارة قبر السيدة المعصومة أخت الإمام الرضا عليه السلام ومنها انتقل إلى مدينة أهواز، فالمحمرة، حيث نزل في فندق، وبعد فترة اتصل بالسيد الجليل السيد أبو حسن البحراني رحمه الله، الذي كان إمام المحمرة ومن الشخصيات الدينية المعروفة هناك، وقد قام بترتيب أمر سفره إلى البصرة وأوصى السيد الجليل الدليل بأن يأخذ الضيف إلى البصرة،إلى منزل الشيخ عبد المهدي المظفر رحمه الله،وهومن الشخصيات اللامعة في البصرة والذي كان بيته مأوى للناس، حيث المجلس الكبير والمضيف العامر والكرم والخلق الإسلامي الرفيع وخدمة المؤمنين.

من البصرة إلى النجف:

بقي الشيخ محمد إسحاق عند الشيخ المضفر مدة يومين، حتى تمكن الشيخ المضفر من ترتيب أمر سفره بواسطة السيد علي الحكاك صاحب المسافر خانه المعروف في البصرة، إلى النجف الأشرف عن طريق القطار الذي أوصله إلى مدينة المسيب على مسافة (60كم) جنوب العاصمة بغداد، فنزل منها إلى مدينة كربلاء المقدسة، وبعد زيارة حرمي الإمام الحسين وأخيه العباس عليهما السلام انتقل في اليوم نفسه إلى النجف الأشرف، بعد أداء مراسم الزيارة في حرم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، نزل ضيفاً عند الشيخ غلام حسين أحد طلاب مدرسة (السليمية) الواقعة في محلة المشراق.

في النجف الأشرف:

وصل الطالب الجديد إلى النجف وهو شاب في مقتبل ربيعه الثامن عشر، وقد مر في طريقه إليها -كما تقدم- بتجارب عديدة أصقلت مواهبه وعلمته بعض مصاعب الحياة على اختلاف أنواعها والفرق بين نظم العيش والأخلاق والعادات في مدن عديدة مختلفة، إلا أن للنجف الأشرف كمدينة وللحوزة العلمية فيها كمدرسة، صعوباتها وظروفها الخاصة ومتاعبها كما هي العادات والتقاليد المختلفة بين الشعوب والبلدان،مقابل ما لها من خصوصيات إيجابية في مقدمتها بركة وجود مرقد أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام، والانفتاح والتقدم العلمي لحوزتها الدينية التي أهلتها أن تتصدر الحوزات الأخرى وتتزعم قيادتها وتخرج آلاف العلماء وتستقر فيها المرجعية العليا للطائفة، ولينشد إليها أفكار وأنظار طلاب وعشاق علوم أهل البيت عليهم السلام ومواليهم من جميع نقاط العالم .
وعلى النزيل الجديد تقع مسؤولية التكيف مع تلك الظروف وتحمل تخطي صعابها بناء على قدرته في الإصرار والمثابرة على الاستمرار ، ابتداء من تحمل مناخها الحار الشيديد صيفا والبارد القارص شتاء ، إلى ضرورة تعلم اللغة العربية أولا للواردين إليها من غير المتكلمين بها ، والبحث عن مكان مناسب للإقامة ، والتفتيش بين مئات الحلقات الدراسية الموجودة والمنتشرة في عشرات المدارس والمساجد في أطراف المدينة للعثور على الحلقة المناسبة للتلميذ من حيث المستوى والأستاذ والمباحث ، وكيفية الحصول على الكتب الدراسية المنتظمة أو تلك التي يحتاجها الطالب لمطالعاته الخاصة في الحقول المختلفة ، إلى التعرف على الطلاب الآخرين ومستواهم العلمي والأخلاقي لإختيار البعض منهم كزملاء في البحث والدرس ، إلى ضرورة تأمين المواد اللازمة للمأكل والملبس وضرورات العيش ، وغيرها ، ويقول الشيخ محمد إسحاق الفياض في هذا الصدد : (كان قدومي إلى النجف الأشرف بسنوات بعد وفاة السيد أبو الحسن الأصفهاني ، وفي أواخر فترة العهد الملكي ، وأوائل فترة مرجعية السيد محسن الحكيم الذي كان قد أجرى راتبا شهريا للطلبة بمقدار دينارينللطالب المعيل ومبلغ دينار للطالب الأعزب من أمثالنا ، وكنا غالبا ما نأكل الخبز والبصل ، ولا يخطر ببال أحدنا أن يأكل يوما شيئا مما يسمى بالفواكه) .

زيارة العلماء والمدارس :

ما إن استقر الطالب الجديد والضيف النزيل عند أحد الطلاب من بني قومه الذي كان قد سبقه إلى النجف ، مشاركا إياه في غرفته الصغيرة من غرف مدرسة السليمية حتى بدأ بزيارةالعلماء والمراجع لأداء واجب الاحترام ، والتعرف عليهم عن قرب ، وطلب التوجيه والإرشاد منهم في المهمة التي نذر نفسه بها ، ألا وهي طلب العلم وخدمة الدين والمؤمنين ، كما قام بزيارة عدد من المدارس والمساجد التي تكتض بالأساتذة وجموع الطلبة في حلقات الدرس والبحث هنا وهناك ، وقد كان عونه في تلك الأمور سماحة العلامة المغفور له الشيخ محمد علي الأفغاني المعروف بالمدرس والذي كان من المهتمين والمتابعين لتسهيل وإنجاز أمور الطلبة وقضاء حوائج بني قومه من الطلبة المقمين في النجف الأشرف وبخاصة الوافدين الجدد منهم ، وهو الأستاذ البارع الشهير لمرحلة المقدمات والسطوح ، ولذلك لقب بالمدرس فقط أخذ الشيخ الفياض معه إلى زيارة المرحوم آية الله السيد محسن الحكيم في مجلسه العام وزار السيد الخوئي في منزله لعلاقة الشيخ المدرس الخاصة وقربه منه .

الاستقرار في المدرسة :

بقي الشيخ محمد إسحاق يشارك مضيفه الشيخ غلام حسين في غرفته الصغيرة في مدرسة السليمية لعدة أشهر ، حتى قرر زميله إكمال نصف دينه بالزواج وقد وفقه الله تعالى لذلك ، فترك الإقامة في المدرسة وانتقل إلى منزله الجديد ، واستقر الشيخ محمد إسحاق في الغرفة منفردا بها ، منكبا على الدرس والبحث والمطالعة والكتابة .

تم نقل السيرة الذاتية لآية الله المرجع الحاج الشيخ محمد إسحاق الفياض دام ظله من الموقع الرسمي

http://www.alfayadh.com

بتاريخ ١٦ جمادى الأول ١٤٣٤ للهجرة

الأحسائي أحد أعضاء فريق الراية الحسينية القائم على شبكة الراية الحسينية، عاشق لخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم و أهل بيته الطيبين الطاهرين.